قصة البشرية بين القرآن والأساطير والفن!!
05-8-2009
بقلم أسامة شحادة
"...الباطل لا يظهر إلا بعد معرفة الحق، لأن الحق ينمو بالعلم والمعرفة، والباطل يزدهر في أوساط الجهل، فحين ضعفت القوة الإسلامية لضعف العلم وانتشار المعاصى، زالت بالاستعمار، عندها استفحل الجهل حتى عم الشرك وطم..."
منذ فترة وأنا أود الحديث عن قصة البشرية كما يعرضها القرآن الكريم، ذلك أن هذا الموضوع من القضايا الجوهرية التي شغلت وجدان الناس على مر العصور، ولأننا اليوم في عصر القرية الكونية، وعصر الصورة ولأننا نحن معاشر المسلمين اليوم نعيش مرحلة الإستلاب والهزيمة، فقد أصبح هناك العديد من شبابنا وشاباتنا يتلقي معلوماته وأفكاره من مصادر غير إسلامية حتى في مسائل تتعلق بالعقيدة الإسلامية. ومن أحدث الأمثلة على تصدي المصادر غير الشرعية لكثير من المسائل العقدية لدى أجيالنا الحاضرة، ما تقدمه اليوم بعض الروايات والأفلام التي تتعرض لقضايا فكرية وفلسفية، مثل روايات دان براون "ملائكة وشياطين" و" شيفرة ديفنشي" التي حولت إلى أفلام سينمائية، أو رواية "عزازيل" ليوسف زيدان، والفائزة بجائزة البوكر، وبعيداً عمّا احتوته من مناقشات للعقيدة المسيحية والقول بتأثرها بالديانات الوثنية السابقة، أو موقفها السلبي من المرأة واحتقارها، فإن ما أود التركيز عليه هو ما ورد في تضاعيف هذه الروايات والأفلام من إشارات إلى بداية الخلق والإنسان.
وقبل الدخول في صلب الموضوع لابد من التنبيه على مسألة لطالما تحدث فيها الكتاب والمفكرون، وهي أن صدام المسيحية والكنيسة أو غيرها من الديانات مع العلم والواقع حدث لأسباب شتى منها التحريف ومنها الوضع البشري، الأمر الذي لا ينبغى سحبه على الإسلام، فليس في القرآن أو السنة الصحيحة أو الشريعة شيء يصادم ويتعارض مع العلم الثابت والواقع اليقيني، ولكن بسبب ضعف الحالة الإسلامية أصبح من السهل تقبل كثير من أجيالنا ذات الخواء المعرفي لهذه الأغلوطة.
إن من القضايا التي تحتاج إلى توضيح كبير اليوم هي علاقة الحقيقة بالأسطورة، فالسائد لدى العلمانيين اليوم هو أولية الجهل والخرافة والشرك على العلم والمعرفة والتوحيد، وهذا بسبب اعتقادهم بالأصل الحيوانى للإنسان، بحسب نظرية دارون.
لكن الموقف الإسلامي النابع من الوحي الإلهي يرفض هذا التصور الحيواني للإنسان، ويقدم التصور الحقيقي والراقي لخلق البشر، الذي يرتكز على الأسس الثلاثة التالية:
- الإنسان خلق مكرماً بيدي الخالق عز وجل " لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ " (البقرة 75 ).
- وأنه خلق في الجنة " كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ " ( الأعراف 27 ).
- وأن الإنسان الأول كان نبياً مؤمناً عالماً مسلماً "وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ "(طه115)، " وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " ( البقرة 31 )، "إن الدين عند الله الإسلام " (آل عمران 19).
وهذه الأسس الثلاثة توضح كثيراً من المشكلات التي لا يزال غير المؤمنين يتخبطون بها، فمن المتفق عليه بين علماء التاريخ أنه لم توجد أمة دون دين، وكما أنهم يقرون بوجود كثير من التشابه بين المعتقدات القديمة والديانات السماوية الأخيرة، لكنهم لتفسير هذه الحقائق جعلوا الأمور تسير على رؤوسها بدل أقدامها، وهذه بعض الأمثلة: - فمثلا فسروا وجود الأديان منذ القدم بانتشار الجهل والخوف، لذلك عبد الناس الظواهر الطبيعية ومن ثم الأصنام، بينما نجد أن القرآن يقرر أن التوحيد هو الأصل في الناس لأن أباهم آدم عليه السلام كان مؤمناً، بل كما في الحديث الصحيح " نبي مكلم " (رواه أحمد).
ففي المعتقد الإسلامي أن التوحيد والإيمان هو الأصل في البشرية ثم طرأ الشرك عليهما، قال تعالى: " كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ " (البقرة 213 ). قال ابن عباس في تفسيرها:" كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق. فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين". وروى البخاري في باب " ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق " عن ابن عباس قال:" هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنوسي العلم عُبدت"، فهذه هي بداية ظهور الشرك وعبادة الأصنام في تاريخ البشرية، ولذلك كان الله عز وجل يرسل الأنبياء والرسل للأمم كي يدلّوهم على طريق السعادة في الدنيا والآخرة بتوحيد الله عز وجل، قال تعالى: " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمَّة رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت" ( النحل36 ).
فوحدة الأصل البشري وانتسابه لآدم عليه السلام ووحدة الدين وأنه الإسلام، تفسر لنا وجود التشابه عبر التاريخ بين كل السلالات البشرية جسدياً، وتفسر لنا سبب تكرار وتشابه كثير من العقائد عند الأقوام المختلفي الديانات اليوم لأنها بقايا دين الإسلام الذي كانوا يشتركون فيه، ولكن عوامل الجهل والتباعد والنسيان والاختراع عملت على تشويه نقائه وتكامله.
وهذا يفسر للباحثين حقيقة احتفاظ الحضارات القديمة بقصص العديد من الأنبياء وما جرى معهم، لأنها حقائق عاشتها هذه الحضارات والأمم البائدة ولأنها أيضاً بقايا سليمة من المعتقدات التي عاصرتها.
- إن زعم العلمانيين أن الأديان السماوية تطوير للأساطير هو قلب للحقائق، حتى قالوا أن أخناتون هو من اخترع التوحيد !!! لأن الأساطير هي في الحقيقة تحريف للدين الذي هو الإسلام، فعبر التاريخ كان توحيد الله عز وجل هو الأصل والأساس ولكن الإنسان الذي من طبعه الجهل والعجلة وحب الهوى كان ينحرف عن الصراط المستقيم للتوحيد ليقع في بحر الشهوات والشبهات برعاية الشيطان الرجيم، فتولد عن ذلك الأساطير والعقائد المحرفة والشهوات الدنيئة. - لليوم يعجز الباحثون في التاريخ والإنثروبولوجيا عن تفسير وجود المصنوعات الدقيقة أو الضخمة من قبل الحضارات القديمة!! كما لا يزال العلم لليوم يقف حائراً حول انجازات الحضارات السابقة من التحنيط أو حدائق بابل أو بناء الأهرامات وغيرها.
لكن إذا تذكرنا أن الإنسان الأول كان قد زوده الله عز وجل بالعلم بأسماء الأشياء، وأنه عاش في الجنة التي "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر".
إن أجدادنا من البشر كانوا يتوارثون أخبار الجنة من أبيهم آدم وأمهم حواء، ولذلك كانوا يحاولون تقليد نعيم الجنة، وهذا فقط ما يفسر مصدر الخيال لتشييد هذه المباني الضخمة مع بساطة الإمكانيات، والقدرة على اختراع أدوات نافعة ودقيقة مع عدم توفر الآلات الحديثة، وإن زيارة لمتاحف الحضارات القديمة أو قراءة أخبارها تذهلك بما تم إنتاجه من آلاف السنين.
إن الانتباه لما تتلقفه أجيالنا المسلمة عبر هذه الوسائط الثقافية من معتقدات وأفكار تصطدم بالإسلام والعلم والواقع قضية ملحة، ذلك أنها كالأسلحة الحديثة تقتل دون أثر وهذا مكمن خطورتها!!
* بدائية الإنسان الأول وهم لا حقيقة!!
بدائية الإنسان الأول وهم شائع اختلقته الأيديولوجية الداروينية التطورية، ونشرته وسائل الإعلام، وخاصة عبر أفلام الكرتون، التي صورت الإنسان الأول شبه عارٍ إلا من قطعة من جلد حيوان وصورته لا يجيد الكلام إلا بالإشارة، ويحتقر المرأة من خلال جرها على الأرض من شعرها، وكل هذه الصور هي خيالات وهمية ليس لها أي مستند سوى البحث عن الغرابة والطرافة تماشياً مع الفكرة الحيوانية للإنسان التي نادى بها دارون ومؤيدوه.
وعلى وهم بدائية الإنسان الأول شيدت النظريات المتعارضة والمتناحرة لعلم الاجتماع الديني التي قررت أن الدين منتج طارئ في البشرية وتطور عبر محطات السحر ومن ثم عبادة الطبيعة والأرواح وبعدها الأصنام والطوطم وبعدها اخترع التوحيد، لاعتقادهم أن افنسان الأول كان بدائياً لا يمكن أن يستوعب فكرة وجود إله متعالي مطلق القدرة والمعرفة!! كما بين ذلك الدكتور علي سامي النشار في كتابه "نشأة الدين"، حيث عرض لنظريات علم الاجتماع الديني وأنها لم تقم على دراسات علمية دقيقة ولا مستوعبة وأن توالى الاكتشافات كان يبطل كثيراً من فرضياتها، سوى نظرية "الأب شمت" التي أثبتت أن الإيمان بإله واحد في السماء كان هو السابق عند كل التجمعات الإنسانية عبر التاريخ، ونظرية "شمت" التي تثبت سبق عقيدة التوحيد وأوليتها قد تجاهلها بالكلية فراس السواح في كتابه " دين الإنسان" !! ويلاحظ على كتاب النشار الاقتصار على كلام الغربيين فقط وإقراره لفكرة بدائية الإنسان رغم معارضتها لصريح القرآن!! لكن نحن المسلمين نعتقد أن الجنس الإنساني هو جنس مكرم لقوله تعالى: "ولقد كرمنا بنى آدم" (الإسراء 70) ومن مظاهر هذا التكريم أن الله عز وجل خلق الإنسان بيديه سبحانه وتعالى "قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" (ص 75)، وأنه خلق الإنسان "في أحسن تقويم" (التين 4)، وأيضاً الله عز وجل هو "الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة" (الملك 23)، وعلمه أسماء الأشياء، وتشمل القدرة على تسمية الأشياء الجديدة "وعلم آدم الأسماء كلها" )البقرة31)، ومن تكريم الله للإنسان أن أنزل الله عزوجل الوحي على خاصة الناس من الأنبياء والرسل ليدلوهم على الصراط المستقيم "قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (البقرة 38)، وكانت قمة التكريم منح الإنسان القدرة على اختيار سبيله وطريقه في الحياة "وهديناه النجدين" (البلد 10)، "إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا" (الإنسان 3).
هذا الإنسان المكرم لم يكن بدائيا أبداً، فلقد عاش في الجنة وعرف النعيم والمتعة والحضارة والمدنية، ولذلك حين بدت عورة آدم وحواء بعد أكلهم من الشجرة المنهية بسبب وسوسة إبليس "طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة" (الأعراف 22)، والشاهد هنا أن آدم وحواء كانا يعرفان اللباس وستر العورة، ولذلك لجآ لأقرب بديل عنه وهو التستر بورق الشجر - وقيل هو ورق التين - الذي يلزقونه مع بعضه حياءً من الله عز وجل.
وقد أورد الإمام الطبري في تفسيره وتاريخه كثيراً من الروايات منها أثر عن ابن عباس أن الله عز وجل قال لآدم: "فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدا"، قال فأهبط من الجنة وكانا يأكلان منها رغداً، فاهبط إلى غير رغد من طعام وشراب، فعُلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم داسه ثم ذراه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله. وعن ابن عباس أيضاً: " ثلاثة أشياء نزلت مع آدم السندان والكلبتان والميقعة يعنى المطرقة".
ومن الإشارات القرآنية لمعرفة وقدرة الإنسان الأول ما ذكره لنا القرآن في قصة نوح عليه الصلاة والسلام الذي كان بعد آدم بعشرة قرون، من أمره ببناء السفينة، قال تعالى: "واصنع الفلك بأعيننا ووحينا" ( هود37)، قال ابن كثير: "وحينا" أي تعليمنا لك ما تصنعه"، وذكر بعدها روايات في تفاصيل بناء السفينة، ومعلوم أن صنع السفينة يحتاج إلى معرفة عقلية وعلمية وقدرة عملية وأدوات مساعدة، ولا يمكن لوهم بدائية الإنسان من القيام بذلك، لأنها لم تكن سفينة صغيرة أو مجموعة ألواح مصفوفة إلى بعضها بشكل بسيط، لأن الطوفان كان شديدا وضخما فتحتاج النجاة منه إلى سفينة قوية وكبيرة، كما أن حمولة السفينة كانت حمولة متعددة حيث حوت زوجين من كل الحيوانات بالإضافة إلى أهل نوح وهذا الأمر يحتاج لمساحة كبيرة.
من خلال هذه الآيات والروايات يتضح لنا عدم بدائية الإنسان وأنه قد منح من الله عزوجل العقل والمعرفة وبعض الأدوات الأساسية، التي تساعده على أداء مهمته في الأرض وهي عمارتها بالعمل الصالح تجاه الله عزوجل بالعبادة والطاعة وتجاه الناس بالإحسان والعدل معهم، وهذه الآيات والروايات تفسر لنا أيضاً تناقض بعض الاكتشافات الأثرية الحديثة مع فرضيات علماء التاريخ والاجتماع والإنثربولوجيا، فقبل عامين تقريبا أعلن عالم الآثار الألماني كلاوس شميدت عن اكتشاف معبد يرجع بناؤه إلى العصر الحجري، أي قبل 11500 سنة أي أنه أقدم من الأهرامات في مصر وانتشار حروف الكتابة في العالم وبعد مضي وقت قصير على انتهاء العصر الجليدي، ويقع في جنوب شرق تركيا بالقرب من الحدود السورية أطلق عليه اسم "غوبالكي تيبي" نقشت على جدرانه نقوش لثعالب وعقارب وأسود ودببة برية وطيور.
وهذا الاكتشاف ينسف فرضيات سائدة كثيرة منها أن هذه الفترة (11500 سنة ق.م) لم تكن سوى مرحلة الجمع والالتقاط والتي تلاها مرحلة الصيد، أي أن هذه الفترة كانت قبل مرحلة الزراعة وقبل اكتشاف النار واختراع الفخار، فكيف وجدت نقوش الحيوانات التي يفترض أن الإنسان لم يعرف صيدها إلا بعد سنوات طويلة جداً!.
الأمر الآخر المحير هو كيف بني هذا المعبد ونقشت هذه النقوش والمفترض أن الإنسان في تلك الفترة لم يتوصل لصنع الأدوات؟! وأن بناء مثل هذا يحتاج لمعرفة في علوم متعدد ومحترفين في العلوم الرياضية المتعلقة بالحساب والقياس، ونقل الحجارة، وصولا إلى تغذية العمال مما لا يتناسب بشكل مع مجتمع ما قبل الزراعة والمعدن. وقريب من هذا الاكتشاف ما أعلنته مجلة The Prestigious peer review journal science الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ 11 يناير 2002م عن عثور عدد من العلماء وفريق من الباحثين على قطعتين حمراوين من النقوش الفنية داخل كهف يعود تاريخه إلى أكثر من 77 ألف عام في إزكولو بجنوب أفريقيا، و أن تلك النقوش تحمل شعارات ورموزا تدل على أن من صنعها كان يمتلك قدرة في الإبداع والفكر، لاحتواء تلك النقوش على شكل هندسي رائع، كما اكتشف داخل الكهف آلات أخرى مصنوعة من العظام، التي استدل بها المكتشفون على أن القدماء الأفارقة كانوا أقدم من عرف السلوك الحضاري قبل أكثر من 35.000 عام من الأوروبيين.
ولا تزال الاكتشافات تظهر المزيد من تناقض كل النظريات الباطلة وغير المستندة إلى الحقائق أو الواقع الصحيح، وفي نفس الوقت تنسجم مع حقائق الوحي الإلهي في القرآن الكريم المحفوظ من النقص أو الخطأ أو التحريف، ليكون حجة ودليلاً لطالبي الحق والهداية.
* مثال معاصر لتحريف التوحيد وظهور الوثنية
كنا قد بينا في المقالين السابقين للرؤية القرآنية تجاه بداية البشرية، وأن البشرية منذ خلقها الله عز وجل وهي تدين بالإسلام وكرمت بالعلم والمعرفة والوحي، وأن الشرك والوثنية والجهل والانحطاط هي أحوال طارئة على البشرية بعد التوحيد والإسلام والعلم والمعرفة وسكن الجنة.
وهذا المقال سيعرض لنموذج حي ومعاصر لكيفية تحول الموحدين والمتعلمين لمشركين أو وثنيين وجهلة بعد العلم والمعرفة، وهذا المثال سيكون من جزيرة مدغشقر التي تعتبر رابع أكبر جزيرة في العالم، تقع مدغشقر في المحيط الهندي في جنوب شرقي قارة أفريقيا مقابل سواحل موزانبيق، التي وصلها الإسلام في القرن الثاني الهجري عندما وصل إلى أفريقيا ودخلها عن طريق جزر القمر، تقول عنها موسوعة ويكبيديا " حاولت البرتغال احتلالها سنة 913 هـ ولكن المسلمين قاوموا وحالوا دون دخولهم الجزيرة، ولكنهم عادوا الكرة مرة أخرى في السنة التالية 914 هـ، ودمروا معظم مدن الجزيرة و سيطروا عليها و تعاقب عليها الاحتلال فحاولت بريطانيا احتلالها في مستهل القرن الماضي و ضمها إلى جزر موريشوس و لكن تغلبت فرنسا في السباق واحتلت مدغشقر في سنة 1285 هـ -1868 م و ظل الاحتلال الفرنسي بها حتى نالت استقلالها في 1385 هـ- 1965 م".
وصلت إلى مدغشقر قبائل عربية مسلمة جاءت من الحجاز وبالتحديد من مدينة مكة وجدة قبل 800 سنة تدعى اليوم قبائل الأنتيمور، وغالبهم اليوم للأسف وثنيون واقعون في الشرك بسبب الجهل والضياع وسياسات الاستعمار وبعثات التبشير التي عملت على طمس الهوية الإسلامية، كحال كثير من القبائل العربية والمسلمة الضائعة في أفريقيا، مثل قبيلة الغبرا في شمال كينيا، وقبيلة البورانا في جنوب إثيوبيا ،وبعض قبائل السكلافا في غرب مدغشقر، والفارمبا في جنوب زيمبابوي، وعودة هؤلاء العرب والمسلمين للوثنية مأساة يدمى لها قلب كل مؤمن. ينقل لنا د. عبد الرحمن السميط - الداعية الإسلامي المتخصص بقضايا مسلمى أفريقيا -مشاهداته للأحوال الدينية اليوم لقبائل قبائل الأنتيمور والسكلافا على النحو التالي:
قبائل السكلافا يصلون الجمعة في المسجد، والأحد في الكنيسة، والاثنين يعبدون الأشجار!! ومن معتقدات قبائل الأنتيمور أن جدهم الأكبر جاء من بلدة في الشمال أسمها "جدة"، وأن بقربها قرية اسمها "مكة"، فيها رجل صالح يحبه أجدادهم اسمه "محمد" صلى الله عليه وسلم، ومن أجدادهم "رابكاري" أي صاحب الفخامة أبوبكر، و"راماري" أي صاحب الفخامة عمر، و"را اوسماني" أي صاحب الفخامة عثمان، وأن جدهم الأكبر يسمونه "زاعليو مكرار" أي: صاحب الفخامة علي الكرار، وأمهم "رامينا" أي صاحبة الفخامة أمينة.
أما كتابهم المقدس فيسمونه "السورابي" أي الكتاب الكبير، ويكتبونه بالحرف العربي القرآني، وفيه شيء من القرآن ولكن أخطائه كثيرة كما فيه من تاريخهم وأذكار متنوعة وشيء من الشعوذة والسحر، ويقع الكتاب في أكثر من عشرين جزءاً، ويكتبونه على ورق يصنعونه بأيديهم من أوراق أشجار معينة يطبخونها حتى تصبح عجينة ثم يفرشونها ويتركونها تنشف.
كما أنهم يحرمون أكل لحم الخنزير وتربيته، ولا يأكلون إلاماذبحوه بالطريقة الشرعية، وقد أقاموا في قرية بقرب مدينة ( ماجونغا )التي تعد أكبر مدن المسلمين في مدغشقر " كعبة " يحجون إليها مرة كل سنة، ويشترطون لمن يريد الحج أن يلبس ملابس غير مخيطة، و يحرصون في حجهم على الإكثار من الدعاء وذبح ذبيحتهم،.وعندهم قرية أسمها "مكة" يعرفون أنها موطن أجدادهم وأنها في الشمال فقط وعندهم قرى تسمى "حجاز" و"مصري"!!
وكثير من أفراد هذه القبائل المسلمة سابقا لا يعرف ما هو القرآن أو الفاتحة أو عدد الصلوات، وحين سألهم د. السميط عن دينهم قالوا: " أنهم مسلمون بروستانت"!! ولما استفسر عن هذا الجواب العجيب، قالوا:" أن أجدادهم أخبروهم أنهم مسلمون لكنهم لا يعرفون الصلاة ولا الصوم وأن المبشرين البروستانت المسيحيين جاءوا وأخبروهم أن الإسلام والبروستانتية شيء واحد وأنهم علموهم الصلاة وبنوا لهم كنيسة وأعطوهم الإنجيل"!!
ولا تزال عندهم كلمات عربية محرفة مثل أسماء أيام الأسبوع فهي عندهم، كالتالى: سابوتسي يعني السبت، أهادى يعني الأحد، اسنين يعني الاثنين، تلاتا يعني الثلاثاء، أربعا يعني الأربعاء، كميس يعني الخميس، زومعه يعني الجمعه.
ويُقدّر مختصون عدد أفراد القبائل التي تحولت من الإسلام إلى الوثنية أواللادينية بما يتراوح بين أربعين إلى خمسين مليون نسمة، ولكن بحمد الله توجد اليوم جهود مشكورة في تعريف هؤلاء الناس بحقيقة أصولهم العربية وهويتهم الإسلامية وتلقى قبول ونجاح.
وللدكتور السميط عدة برامج تلفزيونية عن مسلمي أفريقيا بالعموم وقبائل الأنتيمور بالخصوص منها حلقة بعنوان " قبائل الأنتيمور وعرب مدغشقر " ضمن برنامج تحت المجهر فيها الكثير من العجائب والغرائب.
وهكذا تقدم لنا هذه القصة المحزنة مثال ونموذج عملي يبرهن على أن ظهور الوثنيات القديمة هو متأخر عن ظهور التوحيد، وأن وجود شيء من مظاهر التوحيد هو بسبب سبقه، لا أن الإنسان تدرج في الوثنية حتى اخترع التوحيد، ومن ثم جاءت مرحلة الديانات والرسالات السماوية، كما تزعم الرؤية العلمانية!!
الباطل لا يظهر إلا بعد معرفة الحق، لأن الحق ينمو بالعلم والمعرفة، والباطل يزدهر في أوساط الجهل، فحين ضعفت القوة الإسلامية لضعف العلم وانتشار المعاصى، زالت بالاستعمار، عندها استفحل الجهل حتى عم الشرك وطم.
وهذا ما حدث مع أبينا آدم عليه السلام فبسبب المعصية، أخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض، وكذلك الأمم السابقة، حين ضعفت الاستقامة والهداية بين الناس ساد الشرك والبدعة والخرافة، حتى ظهرت الوثنية وعبدت الأصنام والأحجار،بل انحط العقل البشري فعبد الحيوانات القذرة كالفأر، بل عبد الشيطان، وشاعت الفواحش والمظالم بدل العدل والمكارم، وعند ذلك جاءهم العقاب الإلهي.
ولعل هذا الانحطاط في التفكير والسلوك والعبادة هو أحد معاني قوله تعالى: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين" ( التين 4-5).
المصدر : شبكة القلم الفكرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق